أخبارالاقتصاد الزراعي

احتكار و”استعمار زراعي”.. شركات ضخمة تتحكم في غذاء العالم!

شركات ضخمة تتحكم في بذور العالم. لا تخفي هذه الظاهرة فقط نوعا من الاستعمار المقنع الذي يزيد من تبعية بلدان الجنوب، لكن كذلك تؤدي إلى ضرر مناخي كبير، وتضيّق على أرزاق صغار المزارعين.

على مدى آلاف السنين من الزراعة، تبادل المزارعون فيما بينهم البذور بحرية. كل ذلك تغير في التسعينيات عندما تم إصدار قوانين لحماية المحاصيل الجديدة المعدلة بيولوجيًا. اليوم تتحكم أربع شركات هي باير الألمانية، كورتيفا الأمريكية، شيم شاينا الصينية، وليماغرين الفرنسية، في أكثر من 50 بالمائة من بذور العالم، ما يجعلها تهيمن على إمدادات الغذاء العالمية.

“البذور هي في النهاية ما يطعمنا ويطعم الحيوانات التي نأكلها.. التحكم في البذور، من نواح كثيرة يعني التحكم في الإمدادات الغذائية. إن مسألة من ينتج أصنافاً نباتية جديدة تعدّ أمراً بالغ الأهمية لمستقبلنا جميعًا”، يقول جاك كلوبنبورغ، عالم الاجتماع الريفي والأستاذ في جامعة ويسكونسن ماديسون الأمريكية.

 

قيود على المزارعين الصغار

يحدّ المنتجون الرئيسيون للبذور المعدلة وراثيًا أو مهندَسَة حيويًا، مثل باير وكورتيفا، بشكل صارم من كيفية استخدام المزارعين للأصناف التي تبيعها هذه الشركات، فعادة ما يتم إلزام المشترين بتوقيع اتفاقيات تحظر عليهم حفظ البذور من محاصيلهم سواء لأجل تبادلها أو استخدامها في العام التالي.

تسمح معظم البلدان ببراءات الاختراع فقط على البذور المعدلة وراثيًا، ولكن يمكن أيضًا التحكم في أنواع النباتات الأخرى بواسطة نوع آخر من تشريعات الملكية الفكرية يسمى حماية الأصناف النباتية.

تطلب منظمة التجارة العالمية من الدول الأعضاء أن يكون لديها شكل من أشكال التشريعات لحماية الأصناف النباتية. وتلبي الدول هذا المطلب من خلال الانضمام إلى الاتحاد الدولي لحماية الأصناف النباتية الجديدة (UPOV)، الذي يضع قيودًا على إنتاج البذور وبيعها وتبادلها.

يقول الاتحاد، وكذلك الشركات الزراعية، إن هذه القيود تشجع الابتكار من خلال السماح للمنتجين باحتكار مؤقت للاستفادة من الأصناف النباتية الجديدة التي يطورونها بعيدا عن المنافسة.

“هذا يعني أنهم قادرون على التحكم في طريقة التسويق التجاري لهذه المنتجات، ويمكنهم الحصول على عائد من الاستثمار الذي يقومون به، لأن الأمر يستغرق ما يصل إلى 10 أو 15 عامًا لتطوير مجموعة متنوعة جديدة”، يقول بيتر باتون، نائب الأمين العام لاتحاد UPOV. غير أن الاتحاد يضع شروطًا من قبيل أن تكون البذور التجارية متفرّدة وراثيًا وموحدة وثابتة.

بيدَ أن معظم البذور العادية ليست من هذا النوع، فالأصناف التي يطوّرها المزارعون العاديون، وتلك التي تنتقل عبر الأجيال متنوعة وراثيًا وتتطوّر باستمرار. وبالتالي هي غير قادرة على تلبية هذه المعايير. كما لا يفتقر المزارعون إلى حقوق الملكية الفكرية لأصناف النباتات التي يطورونها بأنفسهم فقط، بل لا تعترف عدة بلدان ببذورهم أصلا.

خطر على الأمن الغذائي وعلى المناخ

لا يقتصر الأمر على أن القنوات التي يمكن من خلالها تبادل البذور وتوزيعها أصبحت تضيق أكثر وأكثر، بل أصبحت البذور نفسها أقل تنوعًا. وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، اختفت 75 بالمائة من أصناف المحاصيل في العالم بين عامي 1900 و 2000. والخطر الأكبر، أنه يتم استبدال ثروة ضخمة من المحاصيل المحلية بأصناف موّحدة مستوردة، ما يجعل الخبراء يحذرون من أن ذلك ستكون له عواقب وخيمة على الأمن الغذائي.

كما تحظر قوانين تسويق البذور في العديد من البلدان بيع ومشاركة البذور التي لم يتم اعتمادها. لذلك غالبًا ما يكون الخيار القانوني الوحيد هو شراء البذور من الشركات الزراعية، ما يعني أن جزءاً هاماً من غذاء العالم يعتمد على تنوع جيني يقلّ باستمرار.

تقول كارين بيشارد، باحثة في التكنولوجيا الحيوية والزراعة من جنيف، إن هذا يمثل مشكلة في كوكب يزداد حرارةً وتضيف بأنه “كلما كانت مجموعتنا الزراعية الجينية أقلّ تنوعا، أصبحنا أكثر عرضة لجميع أنواع الضغوط البيئية. ونعلم أنه مع تغيّر المناخ سيكون هناك المزيد من هذه الضغوط”.

 

في المقابل، معروف أن زراعة مجموعة من المحاصيل المختلفة لكل منها تنوعها الجيني وطريقتها الخاصة في التطور، يتيح للنباتات أن تتكيف مع الظروف المناخية، وحتى إذا فشل أحد المحاصيل، فلن يفقد المزارعون بالضرورة محصولهم بالكامل عكس تقليل التنوع الجيني.

 

“استعمار زراعي” مقنع!

لا يوجد التزام قانوني بالانضمام إلى مجموعة UPOV. لكن دولًا من بينها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا وسويسرا واليابان، تستخدم اتفاقيات التجارة الثنائية والإقليمية للضغط على دول جنوب الكرة الأرضية للانضمام إلى المجموعة.

فرض قواعد موّحدة على العالم ككل يعني في النهاية فرض الزراعة الصناعية التي تهيمن في الغرب على أجزاء أخرى من العالم حيث لا يزال الغذاء يُنتج إلى حد كبير بواسطة مناطق زراعية أصغر حجمًا لكن أكثر استدامة. كما يؤدي التحوّل إلى البذور الموّحدة إلى تغيير النظم الزراعية بأكملها، إذ تفرض الشركات الزراعية الكبرى الأسمدة والمبيدات الحشرية على المزارعين، ما يعني إملاء الطريقة التي يجب أن تتم بها الزراعة.

“نحن ننظر إلى هذا باعتباره استعمارا جديدا يدمر سبل عيشنا وبيئتنا”، تقول مريم ماييت، مديرة المركز الأفريقي للتنوع البيولوجي في جنوب إفريقيا، داعية إلى استثناءات في تشريعات البذور تسمح للمزارعين بالحفاظ على زراعتهم الأصلية التي هي “حجر الأساس لضمان السلامة والاستدامة البيئية”.

 

لهذا السبب، نشطت عبر العالم تنظيمات للسيادة الغذائية تدافع عن نشاط المزارعين الصغار في مواجهة الشركات الضخمة. من هذه الحركات هناك طريق الفلاحين العالمية “لافيا كمبسينا”، وكذلك التحالف من أجل الزراعة المستدامة والشاملة في الهند، وشبكة العالم الثالث في جنوب شرق آسيا وحركة “دعونا نحرر التنوع!” في أوروبا.

 

كما توجد مبادرة البذور المغتوحة المصدر (OSSI)، التي ساهم من خلالها عالم الاجتماع الريفي جاك كلوبنبورغ في تعبئة البذور وإرسالها إلى المزارعين، وهي مبادرة عالمية مقتبسة من البرامج الرقمية مفتوحة المصدر، تتيح تبادل البذور مجانا دون أيّ تقييد، لكنها تعاني من مشاكل، فهي عرضة للاستيلاء عليها بسبب مصدرها المفتوح.

 

غالبًا ما يتم تبرير الزراعة الصناعية – التي تزيد من كمية المنتج النهائي على حساب التنوع البيولوجي والبيئة – بالحجة القائلة بأنه يتعين علينا إطعام العالم. لكن بالنسبة إلى كلوبنبورغ، فهذه طريقة خاطئة للنظر إلى الأشياء، فهو مقتنع بأنه يجب أن يُسمح للناس بإطعام أنفسهم، بدل أن تحتكر شركات ضخمة هذا الأمر وتملي على الناس كيف يدبّرون زراعتهم الغذائية.

المصدر: DW

إغلاق